قبل أيامِ، كشفت وكالة «بلومبيرج» الأمريكية أنّ رئيس المجلس السياسي لحكومة الوفاق المنتهية ولايته، فايز السراج يعتزم تقديم استقالته قريبًا، بعد الاتفاق على توليته منصبًا مؤقتًا من خلال المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة في جنيف الشهر المقبل، وهي الأخبار التي أثارت جدلًا داخل طرابلس، نظرًا للانقسام السياسي الذي تشهده العاصمة، في ظل عدم وجود بديل قادر على نيل ثقة الجميع وموافقتهم.
الخبر الذي نفاه وزير العدل في حكومة الوفاق لموقع «عربي 21»، لم يمض عليه 24 ساعة، حتى ظهر السراج مؤكدًا له بنفسه ومعلنًا استعداداه تقديم استقالته، لكنه ألمح عبر كلمةٍ متلفزةٍ ألقاها: «رغم قناعتي بأن الانتخابات هي أنسب طريقة للوصول إلى حل شامل، لكنني سأكون داعمًا لأية تفاهمات أخرى»، كما أنه اشترط لرحيله تحقيق الآتي: «سأسلم السلطة في نهاية أكتوبر حال اختارت لجنة الحوار مجلسًا رئاسيًا جديدًا».
التقرير التالي يحاول أن ينسج خيوطًا حول مقاربات للتفاهمات الخفية التي أجرتها دول النزاع الليبي، ويحاول أن يستكشف وفق المعلومات المتاحة إلى أي حد ستتأثر مصر وتركيا -الدولتان الأكثر صخبًا واهتمامًا بالوضع الليبي الآن- تحديدًا وفق المعطيات السياسية الجديدة.
هل تقود استقالة السراج إلى انشقاق طرابلس؟
قبل يومٍ واحدٍ من استقالة السراج، كان نائبه الأول أحمد معيتيق يقومُ بزيارةٍ إلى تركيا استقبله خلالها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في خطوةٍ اعتبرها مراقبون محاولة لتقديم نفسه بديلًا عن السراج حال استقال الأخير فعلًا، لكنّ وكالة «بلومبيرج» اعتبرت أنّ الاستقالة تفتح الباب داخل حكومة الوفاق الوطني أمام الخصومات حول من سيتولى السلطة، ومن سيمثل غرب ليبيا «محادثات جنيف» التي تتباحث حاليًا لتشكيل حكومة جديدة من أجل ضمان الانتقال السلمي للسلطة، إضافة إلى أنها قد تقود إلى الاقتتال الداخلي بين الفصائل المتنافسة في التحالف الذي يهيمن على غرب ليبيا.
وانطلقت «محادثات جنيف» برعاية أممية في فبراير (ِشباط) الماضي عقب مؤتمر برلين الذي جمع أطراف النزاع الليبي إضافة إلى ضم 12 رئيسًا يُشار لهم بأنهم شركاء الحرب بالوكالة، وتضم المحادثات لجنة «5+5» العسكرية بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق، وهي لجنة تختص بتثبيت وقف إطلاق النار في أماكن الصراع، وهي ورقة القوة التي استخدمها حفتر في كل مرةٍ لإفشال أي توافق سياسي، والعودة مُجددًا لمربع الحرب.
وأمام تعقيدات المشهد الحالي اشترط السراج لترك منصبه تقدمًا في مفاوضات ترتيبات السلطة الجديدة الجارية حاليًا في سويسرا والمغرب، وعلى مدار سنواتٍ من عمر الأزمة تبنى السراج رؤية سياسية قائمة على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتوحيد المؤسسات الأمنية، واعتماد مشروع دستور مؤقت، ثم الاستفتاء على مشروع الدستور بعد الانتخابات، وهو الاتجاه الذي يرفضه الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، والبرلمان الليبي.
وأمام المستجدات الحالية من المتوقع أن يُرحب حفتر وداعموه الإقليميون باستقالة السراج الذي يرأس حكومة الوفاق منذ ديسمبر (كانون الأول) عام 2015، وكان المقرر له أن يمكث عامين إلا أن المدة طالت خمس سنواتٍ لم ينجح فيها في حسم الأزمة سياسيًا وعسكريًا لصالحه على الطريقة التي تجعله يفرض رؤيته المستقبلية للمشهد الليبي.
وعلى جانب آخر من استقالة السراج في الغرب الليبي، أقدمت حكومة شرق ليبيا، غير المعترف بها دوليًا على تقديم استقالتها قبل أيام إلى برلمان طبرق، على وقع الاحتجاجات التي شهدتها مدينة بنغازي احتجاجًا على تردي الخدمات العامة، وانقطاع الكهرباء، والأحداث الأخيرة المتلاحقة تصنع في ليبيا جمودًا سياسيًا وعسكريًا بامتياز لأربعين يومًا على الأقل إلى حين انتهاء المدة التي حددها السراج للرحيل.
استقالة قد تكون مرتبة.. كيف سترسم تركيا سياستها في ليبيا؟
تزامنًا مع الزيارة التي قام بها أحمد معيتيق، والتي أعقبتها استقالة السراج، أعلن وزير الخارجية التركي، مولو شاوش أوغلو، أن بلاده وروسيا اقتربتا من التوصل إلى اتفاق بشأن وقف لإطلاق النار في سرت، مع الاتفاق على ملامح عملية سياسية في ليبيا.
تصريحات «أوغلو» جاءت عقب جولة غير معلنة من المباحثات جرت في أنقرة بين المسؤولين الأتراك والروس في غياب أطراف الصراع الليبي أو ممثلين عنهم، وعلى المستوى العسكري فمن المتوقع أن يتوصل الطرفان إلى حالةٍ من خفض التصعيد في مدينة سرت الليبية، وتثبيت وقف إطلاق النار الذي رفضه حفتر عقب التقارب السياسي الأخير بين رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، وفايز السراج.
أما على المستوى السياسي، فتراهن تركيا على ضبط طرابلس بعد الفراغ السياسي الذي أحدثته استقالة السراج التي كانت بضغطٍ دولي من حلفائه بحسب مصدر من حكومة الوفاق تحدث لقناة «الجزيرة» القطرية.
وتبدو وجهة النظر التركية والروسية منحازة إلى تشكيل حكومة تجمع أطراف النزاع الليبي ثم تبدأ مرحلة انتقالية رابعة يتم التخضير فيها للانتخابات الرئاسية والبرلمانية ثم مشروع الدستور، وهو ما يتطلب جهدًا موحدًا في ظل انقسام الشرق والغرب.
بالنسبة لأنقرة، فهي تمتلك قنوات اتصال مفتوحة مع أبرز رجلين في الشرق الليبي، الأول هو أحمد معيتيق الذي سلم أوراق اعتماده قبل يومٍ واحد من الاستقالة، والثاني وزير داخلية الوفاق، فتحي باشاغا، المعروف إعلاميًا بعراب الاتفاق التركي الليبي، كما تمتلك تركيا علاقات مع القبائل الليبية في الغرب بما يضمن لها تمرير أية تسوية سياسية في صالحها.
روسيا أيضًا تجمعها مباحثات سرية وعلنية مع حكومة الوفاق، بما يضمن لها استمرار امتلاكها لأوراق تأثير في قرار الحرب والسياسة في ليبيا، إلى جانب علاقاتها الوثيقة مع عقيلة صالح، وسيف الإسلام القذافي، الذي أعدته سابقًا ليكون بديل حفتر، في حال استمرت خسائره على الأرض.
ومؤخرًا استضافت مدينة «بوزنيقة» المغربية وفدًا من المجلس الأعلى للدولة، ومجلس نواب طبرق بهدف حل النقاط الخلافية في اتفاق الصخيرات، وهو اللقاء الذي سبقه إعلان رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، استعداده للقاء عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، وهي الدعوة التي التقطها المغرب للتوسط بين الطرفين.
ناقشت المفاوضات الأخيرة اتفاقًا يقضي بتقسيم تولي المناصب السيادية في المؤسسات الرقابية الليبية، وبحسب المادة 15 من «اتفاق الصخيرات»، فتتمثل تلك المناصب المتنازع عليها في محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.
نجاح المفاوضات الأخيرة يرتبط بشكلٍ ما مع استقالة السراج التي تعني تسريع وتيرة تلك المباحثات تزامنًا مع انطلاق مباحثات أخرى في جنيف برعاية أممية للاتفاق على تسوية سياسية كاملة في ليبيا بدأت بالإعلان الذي أطلقه السراج وحدد له مهلة 40 يومًا. لكن نجاح الخطة التركية في ليبيا مرهون بموافقة مصرية سواء كانت ضمنية أو سرية، خاصة أن مصر حاولت علنًا عرقلة مباحثات المغرب.
القاهرة.. ماذا بعد استقالة السراج؟
في الوقت الذي كانت لقاءات مدينة «بوزنيقة» المغربية تسير بوتيرة ناجحة، حاولت القاهرة عرقلة تلك المفاوضات عبر استضافة ممثلين عن المنطقة الغربية الليبية من أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وعدد من قيادات غرفة بركان الغضب التابعة لحكومة الوفاق، على رأسهم المسؤول الأمني للسراج، بهدف إنقاذ «إعلان القاهرة»، الذي يتبناه عقيلة صالح، من خلال الانفتاح على قيادات المنطقة الغربية، خاصة من مدينة مصراتة، التي تمتلك أكبر قوة عسكرية داعمة لحكومة الوفاق في طرابلس.
وإعلان القاهرة هو مبادرة مصرية ظهرت في يونيو (حزيران) الماضي، خلال استضافة حفتر وعقيلة صالح، ونصت المبادرة التي حظت على دعمٍ عربي لافت على وقف فوري لإطلاق النار عبر استكمال المفاوضات وأعمال اللجنة العسكرية «5+5» بجنيف، مع إلزام الجهات الأجنبية كافة بإخراج المرتزقة الأجانب من الأراضي الليبية، وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها، مع تمثيل لأقاليم ليبيا الثلاثة في مجلس رئاسي ينتخبه الشعب تحت إشراف الأمم المتحدة، ثم اعتماد إعلان دستوري يمثل استحقاقات المرحلة المقبلة سياسيًّا وانتخابيًّا.
التطورات الأخيرة التي شهدتها طرابلس من المتوقع أن تُرحب بها الحكومة المصرية، لأنها تضمن تحقيق مكتسبات إعلان القاهرة حتى من دون تفعيل المبادرة ذاتها، والسراج نفسه اشترط تشكيل مجلس رئاسي، واستمرار عمل اللجنة العسكرية (5+5) في جينيف.
اللافت أنه قبل أيامٍ، صرح ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بضرورة التواصل مع مصر والتباحث معها بغض النظر عن الخلافات، كما أنه قدم عرضًا في ليبيا تحديدًا مفاده: « لو اتفقنا مع المصريين على هذا الأمر، فستكون كل مصالح المصريين مصونة».
وتريد تركيا من مصر التخلي عن دعم حفتر، وتأييد الوصول لاتفاق سياسي يجعل القاهرة راعية لتحقيه عبر نفوذها في الشرق الليبي، ولا ينفي وزير الخارجية التركي استمرار المباحثات بين البلدين على مستوى الاستخبارات، وهو التصريح الذي تكرر في أكثر من مناسبة، ولم تعقب عليه مصر.
بالنسبة لمصر، تبدو مستفيدة عسكريًا، كون الاتفاق على وقف إطلاق النار يعني عدم بدء معركة إسقاط سرت، كما أنّ استقالة السراج، تعني إشراك وجوه جديدة في الحكم بما يضبط معها ميل العلاقات بين مصر وتركيا.
وحتى اللحظة، لا تبدو أية مؤشراتٍ على مدى قدرة لجنة الحوار الوطني في جينيف على استكمال المدة التي حددها السراج لتقديم استقالته، كما لا تتوافر حتى اللحظة أية مؤشراتٍ على ما يمكن أن يحدث في حال دخلت العملية السياسية في مسار مسدود.